بعد انقطاع فترة أشهر عن الدراسة، أعود لأمسك رواياتي باللغة السويدية التي درستها و تأثرت بها.
هناك في مدرسة ال ” الكومفوكس “، وهي مدرسة للبالغين لتعليم اللغة السويدية ، درست في المستوى الأول رواية من ضمن سلسلة الروايات السهلة القراءة وهي مخصصة لمتعلمي اللغة، فلغتها سهلة. درست في الصف ” Grund1 ” أي المستوى الإعدادي الأول، رواية صغيرة من سلسلة روايات كوبلان.
كوبلان هو البطل أو هي البطلة لأن كوبلان كان فتاة تحولت إلى ذكر. أول رواية درستها لكوبلان كانت بعنوان “فتاة مختفية” و كانت رواية جميلة عن صحفي إيراني اسمه كوبلان يعيش في السويد بلا إقامة ولا أوراق رسمية فيعمل محققاً خاصاً بالخفاء و ينجح في ذلك. قرأت لوحدي خارج إطار المدرسة رواية أخرى من سلسلة روايات كوبلان و اشتريت روايتين أخريتين سأقرأهما عندما أعود للقراءة باللغة السويدية. استمتعتُ كثيراً برواية كوبلان، الكتابة حلوة و التعابير و الحبكة و الشخصيات ، كلها ناجحة عدا عن أنها روايات أشبه بالروايات البوليسية المشوقة.
في المستوى الإعدادي الثاني Grund 2 ، درسنا رواية سويدية ليست من ضمن الروايات سهلة القراءة ” lättläst ” و كم كانت لغتها صعبة بالنسبة لي و درسها معي زوجي سامي حينما عاد للدراسة وقد استطاع أن يجدها لي مترجمة على النت فكنت اقرأ صفحة باللغة السويدية و صفحة مترجمة للعربية. سامي لايحب الأدب كثيراً عكسي ، مع ذلك فقد استمتع بقراءتها.
الرواية بعنوان ” Jag är en tjuv ” و معناها ” أنا لص”.. للكاتب السويدي يوناس كارلسون. رواية بعنوان غريب، استرعى انتباهي وأثار فضولي. قرأت الرواية باستمتاع كبير خاصة حين اكتشفتُ سبب تسمية الرواية بهذا الاسم.
تحكي الرواية عن رونالد بطل الرواية وهو المسؤول عن الأمن في أحد مراكز التسوق باستوكهولم. كان رونالد شخصية حيادية أقرب إلى الروتينية، لم يكن كثير الكلام ولاشغوفاً بهوايات خاصة، كان رجلاً عادياً جداً و كان يقوم بعمله على أكمل وجه بل كان مخلصاً لعمله لأقصى حدود. هو مطلق، مازال على علاقة ودية مع زوجته السابقة وزوجها الجديد ولم يكن له أولاد.
تبدأ القصة عندما يعقد المدراء في العمل اجتماعاً عاجلاً لكي يجدوا حلاً لقصة السرقات في مركز التسوق. فكل سنة تنخفض الأرباح بشكل ملحوظ لأن المراهقين يقومون بسرقة الألعاب الإلكترونية. يقترح رونالد وهنا تبدأ حبكة الرواية بأن يقوموا بتعليق لافتة كتب عليها ” أنا لص ” على صدر من يسرق هذه الألعاب ليكون عبرة لبقية الأولاد.
فعلاً في اليوم التالي يلاحظ رونالد أن أحد الأولاد كان يسرق فيستدعيه إلى مكتبه و يقوم بتخييره إما أن يحرروا له بلاغاً إلى الشرطة أو أن يعلّق اللافتة، ويا للمفاجأة يختار المراهق اللافتة. يعقد رونالد حاجبيه و يفكر و يتأمّل ثم ينظر إلى الصبي و يحاول إقناعه بتحرير محضر إلى الشرطة و لن يكون من عواقب هذا المحضر سوى نصائح بسيطة من السوسيال أي دائرة الخدمات الاجتماعية له ولأهله. يحاول رونالد أن يقنع الولد و يسأله مراراً و تكراراً. الولد بكل ثقة و بصوت خفيض متقطع يلفظ تلك الكلمة التي أثارت دهشة رونالد:” اللافتة”.
فعلاً يقف الولد والذي نعتقد في الرواية أنه من أصول مهاجرة، يقف في مدخل مركز التسوق بحيث يراه الجميع وعلى صدره لافتة كبيرة كُتِبَ عليها باحرف كبيرة: ” أنا لص “.
تتفاوت ردود أفعال الناس من مرتادي المركز التجاري فمنهم من كان يضحك ساخراً ومنهم من كان يستهجن هذه الإهانة لولد مراهق صغير. رد فعل الولد كان ملفتاً للنظر، كان مُستسلِماً للوضع و يقف بكل ثقة وهدوء واللوحة معلّقة على صدره. رونالد مع أنه هو الذي اقترح العقوبة إنما كان غير راضٍ و غير سعيد.
هنا لي كلمة بسيطة وسط سرد أحداث الرواية ،لا ننسى أن القصة تدور أحداثها في السويد و هنا يولون للأطفال والمراهقين رعاية خاصة ، فالطفل هنا مقدس، الكل يدور في فلكه، الأهل واجبهم الأساسي أن يرعوه و يوفروا إحتياجاته.
نعود للرواية و ردة فعل رونالد على الحدث الجديد و كيف مر اليوم عليه، في آخر اليوم يأتي أحد الموظفين ليقوم بنزع اللافتة عن صدر الولد و يخرج المراهق بهدوء من المركز التجاري. لا تنتهي القصة هنا، مع أنَّ الولد ذهب بحال سبيله إلا أنَّ منظره لا يزال يؤرّق رونالد، فيحلم به ليلاً و نهاراً ولا يفتأ يفكر به و الأدهى أنه بدأ يشعر بالذنب و تأنيب الضمير مما دفعه للاتصال بالولد عدة مرات ليتكلم معه و يطمئن عليه إلا أنه للأسف لا يوفَّق في الحديث معه.
هنا في الفصول القادمة من القصة تبدأ دهشتي و كم أحب عندما يُدهشنا الكاتب و يقدم لنا ما يعتبر مفاجأة القصة، حيث ينقلب الأمر على إدارة مركز التسوق، ليظهر عشرات المراهقين الذين يحملون لافتات مكتوب عليها: ” انا لص” بخط كبير فمنهم من طبع الجملة طباعة وعلّقها على صدره، ومنهم من كتبها بخط صغير و حملها بذراعيه و منهم من كتبها بخطّ ملّون ورفعها، أشكال متعددة. مراهقون ومراهقات يحملون اللافتات بسعادة و كم كانت دهشة رونالد وموظفو المتجر كبيرة ، حتى أنه عندما حاول أحد الموظفين نزع اللافتات رفض أصحابها بحجة أنَّ هذه حرية شخصية.
لا أنسى دهشتي من هذا الحدث بل هنا كانت الحبكة كلها، و يالها من حبكة و يالها من لغة جميلة عبر عنها الكاتب ، فأنا مثلاً حين أقرأ رواية، أقوم بقراءتها بكل كياني و روحي، وأنا عندما قرأت الرواية أحسست بشعور رونالد و تأنيب ضميره وإحساسه بالذنب من أن يكون قد ظلم طفلاً ما أو أنه أهان كرامته و كسر نفسه أمام أصدقائه و أقرانه وأهله.
أنا شخصياً تماهيت مع إحساس رونالد و قدّرت شعوره و كيف أنه أراد التكلّم مع الصبي و الاطمئنان عليه عدة مرات. تخيلت الصبي تعيساً بائساً، ينظر حوله لا يجد إلا أنَّ كرامته قد سُفحت و قد استُهزِئ به من قِبَل كل من هبّ ودبّ، هو في بلد ليست بلده وأُهين بها، يا له من شعور مُضنٍ مُؤلِم، تخيّلته يحدّث نفسه قائلاً: ” لماذا، لماذا ياربي يحدث كل ذلك لي، لماذا أنا؟، لماذا أنا الذي تُعلَّق مثل هذه اللافتة المُهينة على صدره؟ “
هذا يا أصدقائي ما أحسسته أنا فإذا بي أُفاجأ بالعكس تماماً، فالذي حدث، أنَّ اللافتة المُهينة أصبحت موضة يتباهى بها المراهقون و يتسابقون إلى حملها والإشادة بها حتى. خذوا الآن مفاجأة أكبر من سابقتها، و هي ما جعلت دهشتي في أوجها وهي عندما طلب الولد، أي من علقت اللافتة على صدره أول مرة، طلب ان يقابل رونالد وعندما يقابله يطلب منه طلباً غريباً، يطلب منه اللافتة الأولى، وعندما يسأله رونالد لماذا يريدها، يقول له الولد بكل ثقة و فخر: ” لأنها الأصلية “! معقول، صارت اللافتة المهينة هي اللافتة الأوريجينال! التي يتباهى بها الولد ويريد أن يعلقها مرة أخرى فخوراً أمام أصدقائه لأنها الأصلية!
طبعآ يرفض رونالد تقديم اللافتة و تمّر أحداث الرواية إلى أن نصل إلى خاتمتها، لست بصدد الحديث عن الخاتمة و لن أحرق عليكم الأحداث و متعة القراءة، ولكني أحببت أن أنقل لكم أكثر ما أثّر بي كقارئة من أفكارو مشاعر.
تأمّلتُ قليلاً ووجدتُ أني أتفهّم مشاعر رونالد، فالشعور بالذنب والإحساس بتأنيب الضمير عادةً ما يكون إحساساً قاسياً، وربما في بعض الأحيان ليس له مبرر لكن النفوس ذات الضمائر النقية كثيراً ما تصادف ذلك الشعور. في حياتي صادفت الكثير من تلك المشاعر خاصة عندما كنت مُدرِّسة ، كنت كثيراً ما أُحجِم عن عقاب بعض الطالبات المشاغبات خوفاً من أن أكون قد ظلمتهنَّ، مع أني كنت أعرف يقيناً في قرارة نفسي اني مُحقّة .
وضعت كتابي في مكتبتي و ارتشفتُ قهوتي و تابعتُ تأمّلاتي في روايتي السويدية.
اترك تعليقاً